09 أغسطس 2013

الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية و القانون الوضعي - طارق البشري

My rating: >3 of 5 stars

يبدأ المؤلف حديثه فيعرض أن هناك ثلاثة أسباب لاضطراب البناء التشريعي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي: جمود الفقه الإسلامي على الوضع الذي وصلنا من قرون سابقة، أسلوب الإصلاح الذي أبقى القديم على حاله و أنشأ مؤسسات جديدة بجواره، الغزو الثقافي و العسكري الأوروبي.

يتبدى جمود الفقه الإسلامي بحسب الشيخ محمود شلتوت-وفقا للكاتب- في: العناية باللفظ لا المعنى، التقديس لآراء السابقين، الانشغال بالاحتمالات التي لا تقع و إهمال فقه الواقع، التعصب المذهبي، تحريم غير المذاهب الأربعة.

أما التدخل الغربي فقد بدأ منذ إنقاذ الدول الغربية للدولة العثمانية من شبح الهزيمة على يد قوات محمد علي و تدخلهم التدريجي بعد ذلك في استبدال التشريعات الغربية بتلك القائمة وقتها في الدولة الإسلامية بحجة حماية الأقليات و الرعايا الأجانب حتى لم يبقَ إلا التشريعات المدنية غير التجارية سالمة من ذلك التغريب، و تم تقنين تلك القوانين فيما عُرِف ب (مجلة الأحكام العدلية).
رغم ذلك فإن مصر لم تخضع لذلك التغيير بسبب وضعها بعد معاهدة 1840 من حكم ذاتي، لذا عمدت الدول الغربية للتدخل في التقنين المصري، ساعدها على ذلك الانفتاح الذي حدث في عهد سعيد و إسماعيل حكام مصر، فنشأت المحاكم المختلطة و القنصلية.

يرى الكاتب أن الاعتقاد التاريخي بتحول مصر إلى القوانين الفرنسية الوضعية بسبب رفض رجال الدين تقنين الشريعة اعتقاد خاطئ، فقد تم قبل ذلك نشر مجلة الأحكام العدلية و فيها تقنين لأحكام المعاملات المدنية، بل كان السبب رغبة المسؤولين في مصر بتقديم نظام مماثل لأوروبا مما قد يساهم في عودة سيادة مصر على السلطة التشريعية و القضائية بعد أن يرى الغربيون أن القوانين المطبقة في مصر هي نفسها المطبقة في بلادهم، فتم إنشاء المحاكم الأهلية على أمل إلغاء المحاكم المختلطة.

يحكي المؤلف كذلك محاولة عبد الرزاق السنهوري تمصير القانون، فقد كان يرى أن أخذ القوانين من فرنسا احتلال لا يقل خطورة عن الاحتلال العسكري!
وضع السنهوري ترتيب مصادر القانون كالتالي: التشريع، ثم العُرف، ثم الشريعة الإسلامية، و أخيرا القانون الطبيعي. و كانت هذه أول مرة يُذكر فيها الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع.
و يقول السنهوري عن الشريعة "ففي هذه الشريعة، عناصر لو تولتها يد في الصياغة فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات و مبادئ لا تقل في الرقي و الشمول، و في مسايرة التطورن عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث".

في الكتاب أيضا نقد لتغول السلطة المركزية على الدولة، و ما أدى إليه من تحجيم للنقابات و الجمعيات و التعاونيات، بل يرى الكاتب أن ذلك سهل على المستعمر السيطرة على البلد بمجرد سيطرته على العاصمة.

يعرض الكاتب أيضا لمسألة بالغة الأهمية و هي أن التعارض بين مرجعية القانون و المرجعية الأخلاقية للفرد يخلق اضطرابا بداخل الفرد نفسه و المجتمع بالتبعية، حيث يرى البشري أن السلطة تستمد الكثير من شرعيتها من التزامها بالقانون، و القانون يستمد شرعيته من الالتزام الأخلاقي للأفراد بطاعته، فهو يرى مثلا أن فكرة الإجرام مرتبطة بالمسؤولية الأخلاقية و لا يمكن استبعاد تلك المسؤولية عند وضع أسس المحاسبة على الجرائم المختلفة.
يرى كذلك ارتباط الدين و القانون بأصل واحد في الإسلام ساهم في سرعة انتشار الإسلام، حيث إن تطبيق القانون الإسلامي في المعاملات في بلد ما يعني بالضرورة تطبيق الإسلام نفسه.

يؤكد على الفارق بين الشريعة و الفقه، فالشريعة وفقا للبشري هي ما أنزله الله سبحانه و تعالى من قرآن و كذا السنة النبوية، أما الفقه فهو اجتهاد العلماء في استخلاص الأحكام من أدلتها الشرعية.

يسرد المؤلف قصة نشأة المحاكم الأهلية و الحكم فيها بالقوانين الغربية و كيف أنها نَظِر إليها على أنها أكثر عدلا و إنصافا و أضمن للحقوق عن نظيرتها من المحاكم الشرعية إلى الدرجة التي جعلت شيوخ الأزهر أنفسهم يتحاكمون أمام هذه المحاكم! لكنه يرى في نفس الوقت إن السبب في ضعف المحاكم الشرعية يرجع لرداءة المقار و ضعف الأجهزة المعاونة و تطاول زمن التقاضي، في مقابل حداثة مقار المحاكم الأهلية و قلة القضايا المعروضة أمامها في البداية ما مكن من سرعة إنجازها بكفاءة و يقارن بين هذا الوضع و حال المحاكم حاليا من انعكاس الوضع تقريبا، مما يستبعد كون المشكلة في مصدر التشريعات نفسه.

كما يلفت النظر لكون تغريب القوانين ليس بسبب الاحتلال كما يصور البعض، فالعمل بالقوانين الفرنسية بدأ قبل الاحتلال، ثم إنها مستمدة من القانون اللاتيني الفرنسي لا الإنجليزي الأنجلوساكسوني.

يشير الكاتب إلى نقطة مهمة في مسألة التجديد في التشريع الإسلامي في المجال الوحيد الذي بقي خالصا للشريعة و هو مجال الأحوال الشخصية، فعلى سبيل المثال لا يستطيع ولي الأمر تحديد سن الزواج للفتيات بثمانية عشر عاما، لكن المجددين نفذوا لهذا الأمر عن طريقة خضوع القضاء لسلطان ولي الأمر فحظروا نظر أي قضايا تتعلق بنزاع على الآثار المترتبة على هذا الزواج (كالميراث مثلا). أي أن الدولة لم تحرمه، لكنها رفعت يدها عما يترتب عليه من آثار.

يذكر المؤلف واقعة تاريخية مهمة و هي عن سبب الميل لمذهب أبي حنيفة في التشريعات المستمدة من الشريعة الإسلامية في مصر، فليس سبب ذلك أن أغلب شيوخ الأزهر كانوا من مذهب الإمام أبي حنيفة، بل العكس فمن 17 شيخا للأزهر حتى مطلع القرن العشرين كان أربعة منهم فقط على مذهب أبي حنيفة مقابل 11 على المذهب الشافعي، لكن السبب الحقيقي هو إن مجلة الأحكام العدلية الصادرة عن الخلافة كانت مستمدة أحكامها من مذهب أبي حنيفة و نظرا لخضوع مصر للاحتلال البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر حين جرت محاولة تقنين الشريعة، لم يشأ المصريون قطع آخر صلة عملية تربطهم بدولة الخلافة فبقيت الأحكام في الأحوال الشخصية خاضعة لمذهب أبي حنيفة.

يخصص البشري فصلا كاملا للرد على قضية أن الشريعة لم تكن مطبقة خلال أربعة عشر قرنا إلا نصف قرن فقط، و يبين إن غلاة الإسلاميين و العلمانيين الداعين لتنحية الشريعة يشتركون في تلك الرؤية و يوضح إن نصف القرن المذكور -عهد الخلفاء الراشدين- يختلف نوعيا عما لحقه من عصور كون ذلك العصر كان ما اصطلح على تسميته فترة "السوابق التشريعية" أما ما تلاها من عصور فهي فترات تجارب و تطبيق.

و يؤكد على إن أي تطبيق للشريعة لن يبلغ الكمال أبدا و غاية ما يمكن أن نسمو إليه هو السعي للاجتهاد في الاقتراب من ذلك الكمال، بل -و الكلام للبشري- لا يستطيع أي شخص أن يدعي إن نظاما آخر قد وصل تطبيقه لدرجة المثالية التامة، سواء كان ذلك النظام ديمقراطيا أو اشتراكيا أو غيره من الأنظمة.

يقارن البشري بذكاء بين من يدعي أن الشريعة لم تكن مطبقة في عصر ما بسرد أخبار الجرائم و الانحلال، بما يمكن أن يحدث بعد عدة قرون إذا طالع أحدهم صفحات الحوادث من زمننا هذا و استنتج أننا كنا نعيش في حالة من الفوضى و الشذوذ.

يذكر الكاتب ملاحظة مهمة و هي إن الدعوة حين توجه إلى الحكومة لتطبيق الشريعة فإنها تلاقي صدا و تتعثر بينما حين تتوجه الدعوة للمجتمع فإنها تزدهر و يورد في هذا الشأن مثالا يتعلق بالحجاب حيث يرى إنه لو كانت وُجهت الدعوة للحكومة لإجبار الفتيات على ارتداء الحجاب لكان ذلك بمثابة دعوة لتغيير الواقع و للاقى مقاومة عنيفة، لكن حين قامت الدعوة لذلك بين الجمهور لاقت ترحيبا شديدا و اقتنع عدد كبير من النساء بارتداء الحجاب مما خلق واقعا -إن تزايد- يستطيع إجبار الدولة مستقبلا على إلزام النساء بالحجاب.

يشير البشري أيضا لأن الدعوة للأخذ من القوانين الغربية لم يكن الغرض منها تطبيق قوانين بعينها، فالمشرع الغربي كان يستطيع الحصول على ما يريده من تنوع و غنى الفقه الإسلامي بمصادره المختلفة حتى الشاذ منها، لكن كان القصد -في رأيه- تغيير الإطار المرجعي للأمة إلى القوانين الوضعية بدلا من الشريعة الإسلامية بما يقضي على استقلال الأمة و يكرس تبعيتها للغرب فبدلا من أن نقول "قال الله" و "قال الرسول" نقول "قال نابليون" و "قال القانون الروماني" و يدعو البشريع لا لمجرد تغيير القوانين المخالفة للشريعة، بل لتغيير الأطر المرجعية للقانون بصفة عامة لتكون الشريعة الإسلامية، حتى للقوانين الحالية غير المختلفة معها فالمسألة بالنسبة له مسألة هوية بالدرجة الأولى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق